تحت وطأة ما يسميه البعض بالحداثة وعملية التحدث التي تحمل بداخلها كل معاني الإستعمارية الرأسمالية نشهد اندثار كل ما لا يناسب قوالب هذه العملية. مع توغل رأس المال في واقع الكثيرين وتسلله في ثنايا الحياة اليومية تندثر عادات وممارسات كانت في الماضي جزءًا جوهريًا من الواقع المجتمعي. فيختفي بائع الحليب الذي كان يمر بالبيوت يوميًا وعربة الفول المتجولة، وتصبح فكرة التخصص في الطعام أمرًا ترفيهيًا، لأن المدن التي تعتلي الإعلانات المضاءة بناياتها توفر لنا راحة المركزية التي تجمع كل شيء في المكان ذاته. لذلك يتحول أي شيء آخر إلى مضيعة للوقت وإهدارًا للمالِ والطاقةِ في عالم يحسب كل شيء بمنطق الربح والخسارة. لكن في سياق هذا العالم الذي أصبح أكثر سرعةً وأكثر تنقلًا حيث ينتقل البعض من قارة لأخرى في اليوم ذاته وتنتقل جموع وأمواج من البشر في طرفة عين من مساحة تهدد حيواتهم لأخرى أكثر أمانًا، نجد أن مدن كثيرة قد أصبحت مساحات تتجاوز هويتها الهوية القومية لتمنح سقفًا مشتركًا لبشر من أطراف الأرض. وفي هذه المدن تحديدًا تنبت بذور جديدة لتطرح لنا محلات ومطاعم صغيرة تقدم نكهات وروائح إلى ألسنتنا وذائقتنا من أوطان ربما لن نراها أبدًا، وتتيح لنا أن نلتمس ثقافاتها ونزدرد طبيخ هويتها في إحدى أبلغ الأفعال، حيث يبتلع المرء طعام أحد مطابخ العالم العديدة ليحتوي فعليًا وجسديًا هوية وذاكرة شعب من شعوب العالم. فيتّحدان بهذا الفعل ويصبح الإثنان واحدًا، لا يمكن أن يفترقا في نفس الهيئة التي اجتمعا بها أبدًا. فللأكل هنا رمزية وعاطفة تتخطى بل وتهشم النظرة العقيمة السائدة للطعام كتركيبة علمية من الدهون والبروتينات والسعرات الحرارية فقط.
في بعض المدن نجد أن هوية المدينة نفسها قائمة على فكرة التعددية الثقافية ومبدأ احتواء الجميع، كما هو الحال في نيويورك مثلًا. ورغم ما قد تحتويه هذه الفكرة من زيف أو سطحية في بعض الأحيان لأن البعض يستغل هذه التعددية كحجة للتستر على نظام أكثر تعقيدًا للهيمنة الثقافية، إلا أن هذه الظاهرة من القبول والترحيب بطعام الآخر (رغم احتمالية رفض شخصية الآخر) تتسلل أيضًا إلى مدن الشرق مثل القاهرة في حُلةٍ أبسط، ولا تقتصر على المدن الغربية فقط. ففي الأعوام الأخيرة شهدت القاهرة إزدهارًا ونموًا في عدد المطاعم والمحلات التي تختص بالمطبخ الشامي. فتظهر لافتات بعناوين مثل "أسواق الشام" حول المدينة. وتتحول بعض الأحياء إلى مناطق غالبية سكانها من سوريا وغالبية دكاكينها تقدم المنتجات الشامية، في محاولة لإعادة خلق قطعة صغيرة من الوطن على أرض جديدة. لكن في هذه المحاولة تظل محلات الطعام هي الأكثر شيوعًا وظهورًا في هذه الأحياء، فتتناثر محلات الشاورما والفتة ودكاكين الحلويات في كل مكان، فلماذا يجد المرء في الطعام بيتًا؟
***
"وضعت ملعقتي سكر في كوب الشاي وحركته وأخذت رشفة كادت تحرق لساني فأعدته إلى مكانه. أخذت صمونة وفتحت جانبها ورصفت الگيمر في باطنها وأضفت ملعقتين من الدبس ... أكلت لأتلذذ بآخر فطور. تذوقت الگيمر في أمريكا أثناء زيارة لمدينة سان دييغو التي يسكن فيها الكثير من العراقيين. لكن طعمه هنا مختلف. ويذكرني بگيمر أم جليل التي كانت تضع الصحن على دكة بيتنا في الصباح الباكر. تذكرت كيف مرغت قطة سائبة أنفها في القيمر ذت صباح وأخذت حصتها منه. أما تزال أم جليل حية؟" ( فهرس، سنان أنطون، ص.١٥)
"قطعت حبة برتقال من الغصن كي أذوق طعم برتقال فلسطين، فصرخت أم حسن لا، «هذه ليست للأكل، هذه فلسطين». خجلت من نفسي، وعلَّقت الغصن على الحائط في صالون بيتي، وحين جئت لزيارتي ورأيت الغصن المتعفّن، صرخت ما هذه الرائحة أخبرتك القصة، ورأيتك تنفجر غاضبًا.
«كان يجب أن تأكل البرتقال»، قلت لي.
«لكن أم حسن منعتني، وقالت أنه من الوطن».
«أم حسن خرفانة»، جاوبتني، «كان يجب أن تأكل البرتقال. فالوطن يجب أن تأكله لا أن نتركه يأكلنا. يجب أن نأكل برتقال فلسطين ونأكل فلسطين والجليل».
يومها اكتشفت أنَّ الحق معك، لكنَّ غصن البرتقال كان متعفّنًا. تقدمتَ من الحائط ونزعت الغصن، أخذته من يدك ووقفت حائرًا لا أدري ماذا أفعل بتلك الكومة من العفن.
«ماذا ستفعل»؟ سألتني.
«سأدفنها في التراب»، قلت.
«ولماذا الدفن»؟
«لن أرميها، لأنها من الوطن».
أخذت الغصن من يدي ورميته في المزبلة.
«يا عيب الشوم»، قلت، «ما هذه الخرافات التي تليق بالعجائز، بدل أن تعلق بلادك على الحائط، اكسر الحائط واذهب. يجب أن نأكل كل برتقال العالم ولا نخاف، فوطننا ليس حبات برتقال، وطننا نحن»." (باب الشمس، إلياس خوري، ص. ٢٩)
***
الذاكرة ربما هي كل ما تبقى لمن اضطر أن يخلع جذوره من بيته ليحوم حاملًا هذه الجذور على عاتقه في فضاء العالم الموحش بكل ما هو غريب وغير مألوف. فمثلما يتعكز العجوز على ما تبقى من ذاكرته الواهنة عندما يدرك أن ما تبقى أقل مما فات وأن هذا الزمن لم يعد ملكه بل ملك شباب يخوض خبرات جديدة ويرتكب أخطاء مختلفة، ومثلما يتكئ مَن داهمته الشيخوخة على الماضي حينما يشعر بغربة زمنية، فيجد مَن يشعر بغربة مكانية الذاكرة سندًا له ولها ولرحلاتهما في مساحات لها حاضر لا يناسب ماضيهما. حينما يكون الحديث عن سوريين مقيمين بالقاهرة أو فلسطينين مقيمين ببيروت أو عراقيين مقيمين بلندن أو أي مجتمع خارج موطنه، فالذاكرة ليست مجرد محاولة لإدخال المألوف على بيئة لم يتأقلم معها الجسد وهويته بعد، بل أيضًا رد فعل دفاعي ووصفة علاجية مؤقتة للخوف من اتساع نهر الألفة بين الشخص ووطنه. والخوف من فقدان الوطن له بالطبع جانب ملموس ومادي عندما تبث شاشات التلفاز صورًا لبنايات متهالكة إثر قصف جوي أو جنود الاحتلال يسيرون في بلدتك أو طفولتك وهي تسلب منك ويمحى كل أثرًا لها. لكن الخوف هذا له أيضًا جانب غير مرئي وعلى المستوى ثقافي، عندما يخشى المرء أن تلتف أغصان الغربة المشوكة حوله لتقطع عنه أنفاس الوطن البعيد وتبتلعه بداخلها.
والذاكرة كيان مطاطي ومتقلب يسهل اللجوء إليه لأنه يتسع للجميع ولا يهتم بالحقيقة على قدر اهتمامه بمعتقد المرء أو المجموعة بما هو حقيقي. فهنا لا تَدَّعي الذاكرة الموضوعية ولا تبالي بها، بل تُبنى وتنمو من خلال جهود ذاتية لقراءة الماضي وتفسير الحاضر الذي يتشكل توًا. ولذلك فالنوستالجيا والتشوق للماضي المألوف هو نتاج مخيلات إنسانية تعطي قيمة لما تشاء وتسلب مما تشاء قيمته. لكن للطعام والرائحة قيمة لا يستهان بها في تكوين الذاكرة. فالمرور من أمام المخبز لوحده يوقظ ذكريات لا نهاية لها، ورشفة من حساء ما تأتي بسيلٍ من الصور والقصص.
البرتقال والگيمر والشاورما والطعام عامةً وعاء للذاكرة يستطيع أن يتجاوز الحدود الزمنية والمكانية ليعيد إنتاج نكهة من الماضي تحمل ما لا يدركه المرء من حنين ومعاني. فالطعام هنا وعلى مدار حياة الإنسان يشبه مركبة تجوب الزمن وتجمع الذكريات دون منطق واضح لما يستحق جمعه، لتأتي في يوم ما وتتحول هذه المركبة إلى سندٍ مريح في واقع غير مريح. ويصبح الماضي فجأة ملجأ وسقفًا يحتمي تحته المرء حينما يحلق التيه في السماء، فيعطي معنى وأهمية وجودية لخبرات جماعية وفردية تشكلت في سياق مختلف.
رغم تعقد تكوين ذاكرة الطعام إلا أن هذه الذاكرة تمارس عادةً كلحظة شخصية خاصة للفرد أو كعرض عام يتاح للجميع كما يتمثل في المطاعم والمحلات السورية المتناثرة في القاهرة أو مدن آخرى عديدة، لتصبح هذه الأماكن متحفًا أو معرضًا يحمل قطعة صغيرة من الوطن بداخله. تتنافس المطاعم عادةً على تقديم الطعم الأكثر صدقًا والوجبة الأكثر أصالة لما تحمله الذاكرة الجماعية. وبهذا يأتي الطعام ليحمل درجة من المثالية المشحونة بالمشاعر والعواطف التي تفوق الرمزية. ويتحول الطعام إلى شيء أشبه بالمثيولوجية أو المقدسات، حيث يتناقش البعض ويتحدث عما حقًا يمثل مطبخهم وعما يمثل بدعةً وتدخلًا من الخارج، وهم جالسون يلتهمون الوطن والذاكرة في وجبة لا تقتصر على فعل الأكل فقط بل تمتد أيضًا إلى الشعائر التي تمارس حول المائدة.
ولا تعمل ذاكرة الطعام فقط كخطة للهروب من الحاضر إلى الماضي، بل الطعام وثيقة لأجيال ولدت (كما هو الحال الفلسطيني) أو ستولد وتترعرع (كما هو الحال السوري والليبي) دون أن ترى بيوت أهلهم وأوطان هويتهم. فيصبح الطعام عادة متوارثة عبر الأجيال وواقعًا ملموسًا استطاع أن يعبر الحدود الزمنية والمكانية لينقل ذاكرة جماعية لحياة آخرى، ويحافظ على مجتمعية الذاكرة لوطن مشتت. أو في قولٍ آخر، يتحول الطعام إلى محاولة لخلق مستقبل لمكان تستحيل العودة إليه.